لقد مات الكلام، بعد كل هذا الموت وهذا الخوف وهذا الدمار، مات الكلام…. ولم يعد لدي اي شغف نحو الكتابة او حتى التعبير عن رايي، لم اعد املك اي قدر من الطاقة لجدال احد، او نقاش احد، او حتى مجاملة احد، ما بقي لدي من طاقة بالكاد يجعلني اتنفس، ولا يهمني ابدا رأي غيري تجاه حالتي, هل هي يأس، ام إحباط، ام هزيمة، مثلها مثل هزيمة الجثث المتفحمة في شوارع غزة، تلك الشوارع الخاوية على عروشها، مثلها مثل هزيمة المستشفيات المهدمة والجامعات المنسوفة والاحياء المحروقة والمدارس والمنازل والتاريخ والاحلام في غزة….لقد تم استنزافي عن آخري, وأُهدرت طاقتي, كما اي موارد طبيعية أخرى غير متجددة من حولنا, نفذت طاقتي كما عشرات آلاف المنكوبين من حولي, الذين حققوا نجاحات مذهلة رغم التحديات الهائلة التي واجهوها في حينه, ثم بعد ذلك اعيدوا الى ما هو تحت الصفر….. يملؤني عن آخري حزن رهيب ليس لمداه نهاية، حزن سميك ثقيل معقد، متراص بطبقات بعضها فوق بعض، حزين على غزة التي حطموها بكل قسوة وسُحق اهلها كما الحشرات، بإحتقار مطلق، وظلم جارف, حزين على الاطفال والنساء والشيوخ الذين خذلناهم فلم نحميهم ولم نساعدهم عندما كانوا يصرخون ويستنجدون ونحن امامهم عاجزون ضعفاء بلا حول فينا ولا قوة، حزين على شعب اعرف معظمه، شعب مسكين مظلوم حائر قد امتُهنت كرامته وديست “بالكندرة” على مرأى ومسمع من عالم حقير وقذر عنصري واناني, وآخرون مستفيدون او غير مبالين، حزين على حياتي التي دمرت، وعمري الذي افنيته في البناء والتطوير في هذه البقعة الصغيرة من العالم، ليذهب كل شيء بلا اي اعتبار او احترام, كما انني حزين جدا على اناس اعرفهم, اقارب وأصدقاء في غاية الجمال والروعة, لا تجد لهم مثيل في هذا العالم, قُتلوا او جرحوا، او هم احياء كما الاموات، يتعرضون الان لابشع أشكال الذل والهوان…. انا لست الخارق سوبرمان، ولا استطيع خداع احد بشعارات حمقاء منسلخة عن الواقع كما يفعل بعض المطبلون الساعون لتغليف الحقائق واخفاء وتغطية جرائم الحاكم وطغيان السلطان، عبارات واقاويل وخزعبلات يراد منها تزييف الواقع وتغطية المنطق بقشور من الغباء والخرس، عبارات واقوال من هنا ومن هناك تهدف الى تخدير الجمهور لاهداف حزبية حقيرة, من قبيل “القادم اجمل”, “ستنجلي الغمة”,”سيبزغ فجر الحرية”, “الصبر مفتاح الفرج”, “الرضى والقبول الخ الخ الخ… كلها شعارات قيلت من قبل مع كل الهزائم التي مني بها امثالهم عبر التاريخ، ثم مضى التاريخ، ولم يتوقف عندهم…مواد وادوات تخدير وخمر لذيذ للساذجين والبسطاء من الناس لحرف البوصلة عن الغباء والمقامرة التي مورست تجاه شعبنا فأوردته جحيم المهالك, كلها شعارات واقاويل تكفيرية تخوينية لإخراس الناس وارغامهم على قبول الفشل والاخفاق، فشل العصابة الحاكمة التي اختطفت غزة عشرين عاما، فشلها في تقدير قوة وجبروت وطغيان العدو, وفشلها في معرفة وفهم مستواها وقدراتها الحقيقية, فشلها في تقدير وتقييم تحالفاتها واتفاقياتها ومراهناتها، المحلية والدولية تجاه طوفان دمر قطاع غزة الى الابد..

انا الذي رفضت الهجرة عشرات المرات وسعيت على مدى العمر على حث الشباب على البقاء في الوطن والعمل لبناء الوطن، هذا الوطن الذي سلبهم حياتهم وأطرافهم واهليهم واموالهم واحلامهم وكل انجازاتهم بلا رحمة،

جعلونا نندم….كم انا نادم على ما فات من العمر، كم انا غضبان مما حصل، وكم انا قلق مما هو آت، فلقد مات الكلام…..

Comments are disabled.