تعرفت عليه كأحد المشاركين في تدريب كنت قد أعطيته قبل وقت لمجموعة من مربي الدواجن والمواشي جنوب قطاع غزة حول:

“تقليل خطر الكوارث Disasters Risk Reduction (DRR)” والتعامل مع الظروف الصعبة في قطاع غزة.
هذا ما حدثني به فادي في رفح….
كان فادي عائدا من صلاة الفجر في يوم كان يظنه عاديا روتينيا من أيام الحرب, يوم مخيف وحزين وطويل جدا كما باقي تلك الأيام المستحيلة. اقترب فادي من منزله ووقف بين أشجاره الصغيرة المبعثرة في محيط البيت يتحدث مع زوجته التي كانت تقف على النافذة. كانت تراقب زوجها الحبيب الذي سيتغير حاله إلى الأبد بعد طرفة عين من عينيها اللتان ستريان ما لم تكونا تتوقعانه أبدا. كانا يتبادلان أطراف الحديث, يجر كل منهما الكلام من الآخر, والهدوء المرعب يلف المكان, إلا من صوت تلك الآلة الحقيرة والتي سميناها في حينه بـ “الزنانة” في غزة, إنها طائرات أمريكية صهيونية ذات استخدام مزدوج, استطلاع ومراقبة في معظم الأوقات, وإذا ما لاحظت هدفا أو فريسة يشك في أمرها تحولت إلى وحش كاسر يقذف ما بحوزته من الصواريخ القاتلة, ويجري التحكم بها عن بعد, عبر فاجر أو عاهرة تجلس على مقعد وتحتسي كوبا من الكابتشينو, وتراقب أطفالنا وهم يمزقون إلى قطع صغيرة.
بدأ النهار في الظهور, والحوار بين فادي وزوجته لا يزال مستمرا, وفجأة, وبلا أي سابق إشعار أو علامة, يقول فادي: “رأيت جسما فولاذيا يشق الطريق أمامي بكل شراسة ولهفة ساقطا من الأعلى إلى الأسفل, كان يلتهم المسافة نحوي, ويبتلع الهواء من حولي, حتى استقر بما لديه من جهنم بين قدميّ”.
نعم رأيته أمامي, بلونه وتفاصيله وما عليه من كتابة, بعض الحروف والأرقام, كان الصاروخ يصرخ من الغيظ, والحقد يلفه من كل جانب, كان يجر من خلفه لهب يغلي وضياء أنار كل المكان في أجزاء من الثانية, ثم أظلمت من بعدها, وذهبت كل الحواس, ذهب بعيدا عني, يتقدمها الوعي, لم أدر ماذا حصل, بعد وقت لا أعلم حجمه, وكأنني أفيق من النوم, بدأت أسمع صراخهم جميعا من حولي, صراخ زوجتي وأمي وأبي وإخواني, كان الجميع يبكي ويصرخ بصوت مرتفع: “فادي استشهد فادي استشهد”.
لم أكن أستطيع تحريك أي جزء من جسدي, وخاصة الجزء السفلي, بكل قوة فتحت عيني فرأيت أخي يبكي ويصرخ وهو يجمع أشلائي ويعيدني وأمعائي وأحشائي مكانها, فقد خرجت واختلطت بدمائي والرمال, لم أر حينها قدميّ, وكنت لا أشعر بجميع أطرافي, وأنا لست بكامل وعي, ثم غرقت فيما قد يكون غيبوبة أو نوما عميقا أو بداية الموت, وبعد وقت لست أدري مداه أيضا, شعرت بأنهم يحملونني ويذكرون الله, وسمعتهم يقولون, وأحسبهم من المسعفين: “هدول شهداء خدوهم عتلجات ناصر!”.
لقد انتابني شعور مبهم, لم أكن أفهمه, كما حالتي, لم أمرّ بذلك قبلا, وليست لدي من الخبرة ما يكفي لأفهم, أأنا ميت, ولكني أشعر بهم, وأسمعهم, هل أنا شهيد؟ أم أنهم لا يعلمون أنني حي؟ أم أنني فعلا ميت؟
لم أكن أستطيع الحركة مطلقا, ولم أكن أصلا بوعيي, سوى أنني أسمعهم بكل صعوبة, ولست أدري ما العمل, تحركت سيارة الإسعاف وهي محملة بالجثث التي جلبوها من أماكن أخرى وأنا بينهم, ولم أكن قد فارقت الحياة بعد. هكذا كنت أصر على الاعتقاد, وكيف أخبرهم بأنني لم أذهب بعد, لم تنتهِ حياتي, هناك بعض الأمل, لا تستعجلوا, حاولوا معي, قد ينجح الأمر.
ولكن الأمر غاية في الصعوبة, فإني لا أملك من أمري سوى قلبي وبعض السمع البسيط, وشعور لا أفهمه.
بعد لحظات قد مرت حتى أدركت حينها أني قد أموت بطريق الخطأ, فقررت التصرف, لقد كبلتني الشظايا في كل أنحاء ما تبقى لدي من جسدي النازف والمقطع, حتى يداي كانتا ممزقتين من كل الجوانب كما وجهي وكامل جسدي, ولم يعد نصفي السفلي بحوزتي, وأنا في الطريق إلى الثلاجة حيا.
قررت التصرف, استجمعت كامل قوتي, قوة لا تضاهيها قوة, في تقديري حينها لو تركزت طاقتي على جبل “أحد” لأزاحته من مكانه.
كنت أشعر بساق المسعف ناحية الركبة تضرب رأسي كلما ذهب سائق الإسعاف ناحية وعرة, أو صعد على حافة مرتفعة, فقررت أن أرسل له رسالة, رسالة لم يرسلها إنسان لآخر قبلي, ولن يرسلها أحد لآخر بعدي.
رسالة لو تلقفها ذاك المسعف جيدا سأنجو, ولو تجاهلها فإني في الثلاجة حتى الموت.
بعد أن استجمعت كل قوتي التائهة, وعزمي المتناثر في الهواء جراء ذاك الصاروخ القذر, تصادمت ساق المسعف برأسي مرة أخرى.
كانت هذه المرة مختلفة, أنا من صدمت برأس المسعف, نعم صدمته برأسي المحطم والإسعاف في طريقها دون اهتزاز.
أنا من تحرك, صدمته برأسي المهشم صدمة كادت تمر عنه مرور الكرام, حسبته لم يشعر بها من ضعفها, وهي مني بكل القوة التي امتلكتها حينذاك.
وصلني شعور متردد بأنه قد انتبه, وأعدت الفعلة مرة أخرى وأخيرة, سمعته يصرخ لزميله, “هادا عايش هادا عايش”.
حينها شعرت بأنني أولد من جديد, لقد أعطيت الفرصة من جديد, شكرا لله عز وجل.
وبعدها ذهبت إلى النوم مع بعض الطمأنينة, استيقظت بعد أشهر في العناية المركزة, وقد وجدتني آخر, لم أَرَني كما كنت من قبل, لم أعرفني, ولم أَرَني هكذا من قبل, ووجدت الجميع قد تغير, نظرات الحزن والدموع والألم, مع الحب الوفير, وجدتني بلا قدميّ, وبلا أجزاء كبيرة من أحشائي, ووجدت مئات من القطب والتوصيلات في كامل جسدي, ولكنني حي.
لم يأخذوني إلى الثلاجة, وقد فعلوها مع الكثيرين من الذين لم يحالفهم الحظ كساق مسعف بجوار رؤوسهم.
تغيرت حياتي بعدها كليا, وأصبحت أجلس على هذا الكرسي, ولا أفارقه البتة, ولكنني أعيش ما تبقى من حياتي, ولم أتّنح جانبا, ولم أستسلم, ولم أنكسر…
أصبح فادي من ذوي الإعاقة, ولكنه ناجح في عمله, يدير مزارع للدواجن في رفح.
كم أعجبتني شخصية فادي فادي, والذي له من اسمه نصيب, كيف لا وقد قدم أجزاء من جسده فداءً للوطن.
رجل واثق من نفسه ومهذب ورزين, هادئ جدا ومثقف, ومؤمن بقضاء الله وقدره.
اللهم كن عونا لذوي الإعاقة, وجنبنا وإياكم وجعها, وألم حاجتها.
في أعقاب حرب (٢٠١٤) فقط نتج ما يزيد عن الـ 2000 من ذوي الإعاقة, غير الشهداء والحالات النفسية في قطاع غزة…
كل الحب صديقي فادي وأنتم أصدقائي الغوالي على قلبي, لكم مني كل الاحترام…
أخي الحبيب فادي العرجا, لك مني كل التحية.

Comments are disabled.